فصل: النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: فِي مَعْرِفَةِ شُرُوطِ الْمُفَسِّرِ وَآدَابِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فصل: في الْحَاجَةِ إِلَى التَّفْسِيرِ:

وَأَمَّا وَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَيْه:
فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏: اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا خَاطَبَ خَلْقَهُ بِمَا يَفْهَمُونَهُ، وَلِذَلِكَ أَرْسَلَ كُلَّ رَسُولٍ بِلِسَانِ قَوْمِهِ، وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ عَلَى لُغَتِهِمْ‏. وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى التَّفْسِيرِ لِمَا سَيَذْكُرُ بَعْدَ تَقْرِيرِ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَضَعَ مِنَ الْبَشَرِ كِتَابًا هو في حاجة إلى شرح وذلك مور ثلاثة فَإِنَّمَا وَضَعَهُ لِيُفْهَمَ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْحٍ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى الشُّرُوحِ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ‏.
أَحَدُهَا‏: كَمَالُ فَضِيلَةِ الْمُصَنِّفِ، فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ الْعِلْمِيَّةِ يَجْمَعُ الْمَعَانِيَ الدَّقِيقَةَ فِي اللَّفْظِ الْوَجِيزِ، فَرُبَّمَا عُسِرَ فَهْمُ مُرَادِهِ، فَقَصَدَ بِالشَّرْحِ ظُهُورَ تِلْكَ الْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ شَرْحُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ تَصْنِيفَهُ أَدَلَّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ شَرْحِ غَيْرِهِ لَهُ‏.
وَثَانِيهَا‏: إِغْفَالُهُ بَعْضَ تَتِمَّاتِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ شُرُوطٍ لَهَا اعْتِمَادًا عَلَى وُضُوحِهَا أَوْ لِأَنَّهَا مِنْ عِلْمٍ آخَرَ فَيَحْتَاجُ الشَّارِحُ لِبَيَانِ الْمَحْذُوفِ وَمَرَاتِبِهِ‏.
وَثَالِثُهَا‏: احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَعَانٍ كَمَا فِي الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ، وَدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، فَيَحْتَاجُ الشَّارِحُ إِلَى بَيَانِ غَرَضِ الْمُصَنِّفِ وَتَرْجِيحِهِ‏. وَقَدْ يَقَعُ فِي التَّصَانِيفِ مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ بَشَرٌ مِنَ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ أَوْ تَكْرَارِ الشَّيْءِ، أَوْ حَذْفِ الْمُبْهَمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ الشَّارِحُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ‏.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُول: إِنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ فِي زَمَنِ أَفْصَحِ الْعَرَبِ فلما احتاجوا إلى تفسيره وَكَانُوا يَعْلَمُونَ ظَوَاهِرَهُ وَأَحْكَامَهُ‏.
أَمَّا دَقَائِقُ بَاطِنِه: فَإِنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ لَهُمْ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ مَعَ سُؤَالِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَكْثَرِ، كَسُؤَالِهِمْ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الْأَنْعَام: 82]. فَقَالُوا‏: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. فَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقوله: {‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13]. وَكَسُؤَالِ عَائِشَةَ عَنِ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ، فَقَالَ: ذَلِكَ الْعَرُضُ‏. وَكَقِصَّةِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَأَلُوا عَنْ آحَادٍ مِنْهُ، وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى مَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الظَّوَاهِرِ، لِقُصُورِنَا عَنْ مَدَارِكِ أَحْكَامِ اللُّغَةِ بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ، فَنَحْنُ أَشَدُّ النَّاسِ احْتِيَاجًا إِلَى تفسير القرآن التَّفْسِير.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَفْسِيرَ بَعْضِهِ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْأَلْفَاظِ الْوَجِيزَةِ وَكَشْفِ مَعَانِيهَا، وَبَعْضُهُ مِنْ قِبَلِ تَرْجِيحِ بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَى بَعْضٍ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْخُوَيِّيُّ‏: عِلْمُ التَّفْسِيرِ قَالَ عَنْهُ الْخُوَيِّيُّ عَسِيرٌ يَسِيرٌ، أَمَّا عُسْرُهُ فَظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ، أَظْهَرُهَا أَنَّهُ كَلَامُ مُتَكَلِّمٍ لَمْ تَصِلِ النَّاسُ إِلَى مُرَادِهِ بِالسَّمَاعِ مِنْهُ، وَلَا إِمْكَانِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَخِلَافُ الْأَمْثَالِ وَالْأَشْعَارِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُمَكِّنُ عِلْمَهُ مِنْهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِأَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ‏. وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَتَفْسِيرُهُ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِأَنْ يَسْمَعَ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ إِلَّا فِي آيَاتٍ قَلَائِلَ، فَالْعِلْمُ بِالْمُرَادِ يُسْتَنْبَطُ بِأَمَارَاتٍ وَدَلَائِلَ. وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَتَفَكَّرَ عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، فَلَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْمُرَادِ فِي جَمِيعِ آيَاتِهِ‏.

.فَصْلٌ: في شَرَفِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ:

وَأَمَّا شَرَفُهُ فَلَا يَخْفَى، قَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [الْبَقَرَة: 269].
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} قَالَ: الْمَعْرِفَةُ بِالْقُرْآنِ، نَاسِخُهُ وَمَنْسُوخُهُ، وَمُحْكَمُهُ وَمُتَشَابِهُهُ، وَمُقَدَّمُهُ وَمُؤَخَّرُهُ، وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَأَمْثَالُهُ‏.
وَأَخْرَجَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا: «{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} قَالَ: الْقُرْآنَ».
قَالَ ابْنُ عَبَّاس: يَعْنِي تَفْسِيرَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ قَرَأَهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ‏.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} قَالَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْفِكْرَةُ فِيهِ‏.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [الْعَنْكَبُوت: 43]. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: مَا مَرَرْتُ بِآيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَا أَعْرِفُهَا إِلَّا أَحْزَنَتْنِي، لِأَنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.
‏وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ تُعْلَمَ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَمَا أَرَادَ بِهَا‏.
وَأَخْرَجَ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَا يُحْسِنُ تَفْسِيرَهُ، كَالْأَعْرَابِيِّ يَهُذُّ الشِّعْرَ هَذًّا‏.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ وَالْتَمِسُوا غَرَائِبَهُ‏».
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: لِأَنْ أُعْرِبَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْفَظَ آيَةً‏.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ إِذَا سَافَرْتُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أَعْرَبْتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَفَعَلْتُ‏.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ‏: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَجْرُ شَهِيدٍ‏.
قُلْتُ‏: مَعْنَى هَذِهِ الْآثَارِ عِنْدِي إِرَادَةُ الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِعْرَابِ عَلَى الْحُكْمِ النَّحْوِيِّ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ، وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي سَلِيقَتِهِمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَعَلُّمِهِ‏.
ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ النَّقِيبِ جَنَحَ إِلَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِعْرَابَ الصِّنَاعِيَّ، وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَقَدْ يَسْتَدِلُّ لَهُ بِمَا أَخْرَجَهُ السِّلَفِيُّ فِي الطُّيُورِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ يَدُلَّكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ» وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَأَجَلُّ الْعُلُومِ الثَّلَاثَةِ الشَّرْعِيَّةِ‏.
‏قَالَ الْأَصْبَهَانِيُّ‏: أَشْرَفُ صِنَاعَةٍ يَتَعَاطَاهَا الْإِنْسَانُ تَفْسِيرُ الْقُرْآن قَالَ فِيهِ الْأَصْبَهَانِيُّ. بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ شَرَفَ الصِّنَاعَةِ إِمَّا بِشَرَفِ مَوْضُوعِهَا مِثْلَ الصِّيَاغَةِ، فَإِنَّهَا أَشْرَفُ مِنَ الدِّبَاغَةِ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الصِّيَاغَةِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَهُمَا أَشْرَفُ مِنْ مَوْضُوعِ الدِّبَاغَةِ الَّذِي هُوَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ‏. وَإِمَّا بِشَرَفِ غَرَضِهَا مِثْلَ صِنَاعَةِ الطِّبِّ، فَإِنَّهَا أَشْرَفُ مِنْ صِنَاعَةِ الْكُنَاسَةِ، لِأَنَّ غَرَضَ الطِّبِّ إِفَادَةُ الصِّحَّةِ، وَغَرَضَ الْكُنَاسَةِ تَنْظِيفُ الْمُسْتَرَاحِ‏.
وَإِمَّا لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَالْفِقْهِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الطِّبِّ، إِذْ مَا مِنْ وَاقِعَةٍ فِي الْكَوْنِ فِي أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا وَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْفِقْهِ، لِأَنَّ بِهِ انْتِظَامُ صَلَاحِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، بِخِلَافِ الطِّبِّ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَات. إِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَصِنَاعَةُ التَّفْسِيرِ قَدْ حَازَتِ الشَّرَفَ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ مِنَ الْجِهَاتِ الثَّلَاث.
أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوْضُوعِ فَلِأَنَّ مَوْضُوعَهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ يَنْبُوعُ كُلِّ حِكْمَةٍ، وَمَعْدِنُ كُلِّ فَضِيلَةٍ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبِلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، لَا يَخْلُقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ‏.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْغَرَض: فَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ هُوَ الِاعْتِصَامُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَالْوُصُولُ إِلَى السَّعَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي لَا تَفْنَى.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ شِدَّةِ الْحَاجَة: فَلِأَنَّ كُلَّ كَمَالٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ عَاجِلِيٍّ أَوْ آجِلِيٍّ، مُفْتَقِرٌ إِلَى الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

.النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: فِي مَعْرِفَةِ شُرُوطِ الْمُفَسِّرِ وَآدَابِهِ:

1- قَالَ الْعُلَمَاء: مَنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ طَلَبَهُ أَوَّلًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَمَا أُجْمِلَ مِنْهُ فِي مَكَانٍ فَقَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اخْتُصِرَ فِي مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ‏.
وَقَدْ أَلَّفَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ كِتَابًا فِيمَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعٍ، وَفُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ، وَأَشَرْتُ إِلَى أَمْثِلَةٍ مِنْهُ فِي نَوْعِ الْمُجْمَلِ.
2- فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ طَلَبَهُ مِنَ السُّنَّة: فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضَّحَةٌ لَهُ‏. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النِّسَاء: 105].. فِي آيَاتٍ أُخَرَ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏: «أَلَّا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ». يَعْنِي: السُّنَّةَ.
3- فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ مِنَ السُّنَّةِ رَجَعَ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَة: فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ، لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ عِنْدَ نُزُولِهِ، وَلِمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنَ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ‏.
وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَك: إِنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ لِلْقُرْآنِ قَالَ عَنْهُ الْحَاكِمُ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ‏.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الطَّبَرِيُّ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِه: الْقَوْلُ فِي آدَابِ الْمُفَسِّر:
اعْلَمْ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ أَوَّلًا، وَلُزُومُ سُنَّةِ الدِّينِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ، لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الدُّنْيَا، فَكَيْفَ عَلَى الدِّينِ ثُمَّ لَا يُؤْتَمَنُ مِنَ الدِّينِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عَالِمٍ، فَكَيْفَ يُؤْتَمَنُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ إِنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِالْإِلْحَادِ أَنْ يَبْغِيَ الْفِتْنَةَ، وَيُغِرِّ النَّاسَ بِلَيِّهِ وَخِدَاعِهِ، كَدَأْبِ الْبَاطِنِيَّةِ وَغُلَاةِ الرَّافِضَةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِهَوًى لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَحْمِلَهُ هَوَاهُ عَلَى مَا يُوَافِقُ بِدَعَتِهِ، كَدَأْبِ الْقَدَرِيَّةِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يُصَنِّفُ الْكِتَابَ فِي التَّفْسِيرِ، وَمَقْصُودُهُ مِنْهُ الْإِيضَاحُ خِلَالَ الْمَسَاكِينِ، لِيَصُدَّهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ السَّلَفِ، وَلُزُومِ طَرِيقِ الْهُدَى.
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِمَادُهُ عَلَى النَّقْلِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَمَنْ عَاصَرَهُمْ، وَيَتَجَنَّبُ الْمُحْدَثَاتِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ أَقْوَالُهُمْ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا فَعَلَ، نَحْوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَقْوَالُهُمْ فِيهِ تَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَيَأْخُذُ مِنْهَا مَا يَدْخُلُ فِيهِ الْجَمِيعِ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَطَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ، فَطَرِيقُ السُّنَّةِ وَطَرِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَيُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَفْرَدَهُ كَانَ مُحْسِنًا‏.
وَإِنْ تَعَارَضَتْ رَدَّ الْأَمْرَ إِلَى مَا ثَبَتَ فِيهِ السَّمْعُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَمْعًا، وَكَانَ لِلِاسْتِدْلَالِ طَرِيقٌ إِلَى تَقْوِيَةِ أَحَدِهَا رَجَّحَ مَا قَوِيَ الِاسْتِدْلَالُ فِيهِ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي مَعْنَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ، يُرَجِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا قَسَمٌ‏. وَإِنْ تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ فِي الْمُرَادِ عَلِمَ أَنَّهُ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَيُؤْمِنُ بِمُرَادِ اللَّهِ مِنْهَا، وَلَا يَتَهَجَّمُ عَلَى تَعْيِينِهِ، وَيُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ الْمُجْمَلِ قَبْلَ تَفْصِيلِهِ، وَالْمُتَشَابِهِ قَبْلَ تَبْيِينِهِ‏.
وَمِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْمَقْصِدِ فِيمَا يَقُولُ لِيَلْقَى التَّسْدِيدَ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [الْعَنْكَبُوت: 69]. وَإِنَّمَا يَخْلُصُ لَهُ الْقَصْدُ إِذَا زَهِدَ فِي الدُّنْيَا; لِأَنَّهُ إِذَا رَغِبَ فِيهَا لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى غَرَضٍ يَصُدُّهُ عَنْ صَوَابِ قَصْدِهِ، وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ صِحَّةَ عَمَلِهِ‏.
وَتَمَامُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ أَنْ يَكُونَ مُمْتَلِئًا مِنْ عِدَّةِ الْإِعْرَابِ، لَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ اخْتِلَافُ وُجُوهِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ إِذَا خَرَجَ بِالْبَيَانِ عَنْ وَضْعِ اللِّسَانِ، إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَتَأْوِيلُهُ تَعْطِيلُهُ. وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضُهُمْ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الْأَنْعَام: 91]. إِنَّهُ مُلَازِمَةُ قَوْلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدْرِ الْغَبِيُّ أَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ حُذِفَ مِنْهَا الْخَبَرُ، وَالتَّقْدِير: اللَّهُ أَنْزَلَهُ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي طَالِبٍ‏.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي كِتَابٍ أَلَّفَهُ فِي هَذَا النَّوْع‏:
يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْل: 44]. يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا‏.
وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيّ: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزُوهَا حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا‏: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا. وَلِهَذَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ‏.
وَقَالَ أَنَسٌ‏: كَانَ الرَّجُلَ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِي أَعْيُنِنَا‏. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِ سِنِينَ‏. أَخْرَجَهُ فِي الْمُوَطَّأِ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]. وَقَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النِّسَاء: 82]. وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لَا يُمْكِنُ.
وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنَ الْعِلْمِ، كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ، وَلَا يَسْتَشْرِحُونَهُ، فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ، وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ، وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ قَلِيلًا جِدًّا، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَعْدَهُمْ.
وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ، كَانَ الِاجْتِمَاعُ وَالِائْتِلَافُ وَالْعِلْمُ وَالْبَيَانُ فِيهِ أَكْثَرَ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ التَّفْسِيرِ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَرُبَّمَا تَكَلَّمُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَالْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيلٌ. وَغَالِبُ مَا يَصِحُّ عَنْهُمْ مِنَ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ تَنَوُّعٍ لَا اخْتِلَافِ تَضَادٍّ، وَذَلِكَ صِنْفَان.
أَحَدُهُمَا‏: أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْمُرَادِ بِعِبَارَةٍ غَيْرَ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ، تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْمُسَمَّى غَيْرَ الْمَعْنَى الْآخَرِ، مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى كَتَفْسِيرِهِمْ {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} بَعْضٌ: بِالْقُرْآن أَي: اتِّبَاعُهُ، وَبَعْضٌ: بِالْإِسْلَامِ، فَالْقَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيْرِ الْوَصْفِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ: الصِّرَاطِ يُشْعِرُ بِوَصْفٍ ثَالِثٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَشَارُوا إِلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا‏.
الثَّانِي‏: أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنَ الِاسْمِ الْعَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَتَنْبِيهَ الْمُسْتَمِعِ عَلَى النَّوْعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ، مِثَالُهُ مَا نُقِلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} [فَاطِرٍ: 32]. فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ الْمُضَيِّعَ لِلْوَاجِبَاتِ، وَالْمُنْتَهِكَ لِلْحُرُمَاتِ، وَالْمُقْتَصِدُ يَتَنَاوَلُ فَاعِلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَارِكَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالسَّابِقُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ سَبَقَ فَتَقَرَّبَ بِالْحَسَنَاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ‏. فَالْمُقْتَصِدُونَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ.
ثُمَّ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِ الْقَائِل: السَّابِقُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ، وَالظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الَّذِي يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ إِلَى الِاصْفِرَار. أَوْ يَقُولُ: السَّابِقُ الْمُحْسِنُ بِالصَّدَقَةِ مَعَ الزَّكَاةِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ فَقَطْ، وَالظَّالِمُ مَانِعُ الزَّكَاة.
قَالَ: وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَنَوُّعِ التَّفْسِيرِ، تَارَةً لِتَنَوُّعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَارَةً لِذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُسَمَّى، هُوَ الْغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ.
وَمِنَ التَّنَازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْن‏:
إِمَّا لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا فِي اللُّغَةِ كَلَفْظِ {قَسْوَرَةٍ} [الْمُدَّثِّر: 51]. الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي، وَيُرَادُ بِهِ الْأَسَدُ. وَلَفْظِ {عَسْعَسَ} [التَّكْوِير: 17]. الَّذِي يُرَادُ بِهِ إِقْبَالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِهِ.
وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَوَاطِئًا فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ أَوْ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ كَالضَّمَائِرِ فِي قَوْلِه: {‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النَّجْم: 8]. وَكَلَفْظِ الْفَجْرِ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلَّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَهَا السَّلَفُ، وَقَدْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ‏.
‏فَالْأَوَّلُ إِمَّا لِكَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً، وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرِكِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَاه. وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئًا فَيَكُونُ عَامًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِمُخَصِّصِهِ مُوجَبٌ، فَهَذَا النَّوْعُ إِذَا صَحَّ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَانَ مِنَ الصِّنْفِ الثَّانِي‏.
وَمِنَ الْأَقْوَالِ الْمَوْجُودَةِ عَنْهُمْ وَيَجْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَنْ يُعَبِّرُوا عَنِ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ، كَمَا إِذَا فَسَّرَ بَعْضُهُمْ {تُبْسَلَ} [الْأَنْعَام: 70]. بِـ: (تُحْبَسَ) وَبَعْضُهُمْ بـ: (تُرْتَهَنَ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَرِيبٌ مِنَ الْآخَرِ‏.
ثُمَّ قَالَ: